القاهرة - محمد ابراهيم - الدراما ليست لهوًا يُستهلك، بل فكرٌ يُبنى، ليست مشهدًا يُشاهد وينقضي، بل مرآة للوعي الجمعي، ولسانٌ للحقيقة كما يراها الناس في حياتهم، في حقبةٍ اختلط فيها الوهْم بالواقع، وتكاثرت الحكايات حتى غابت الحقيقة، تغدو الدراما إن - أحسنت - وسيلةً لصناعة الإنسان العربي من جديد، وإن أُسيء استخدامها، تصبح أداةً لتفريغه من ذاته.
إن الحديث عن الدراما العربية اليوم لا يمكن أن ينفصل عن الحديث عن جودة الإنتاج والمعنى، فما أكثر المسلسلات التي تُنفق فيها الأموال، لكنها تخلو من الرسالة، وما أقلّ تلك التي تُصنع توقظ الضمير لا لتنوّم العقول. من هنا تبرز أهمية النماذج الواعية التي أدركت منذ وقتٍ مبكر أن الفن ليس مجرد صناعة ربحية، بل مشروع وطني وإنساني في آنٍ واحد، كما هو حال المنتج صادق الصبّاح الذي مثّل في مسيرته محاولةً حقيقية للجمع بين الفكر والاحتراف، بين الإبداع والمسؤولية.
فالصبّاح لم يرَ في الكاميرا وسيلة تصوير فحسب، بل أداةً لتوثيق وعي الأمة، أعماله جاءت شاهدةً على أن الدراما الراقية يمكن أن تكون نافذة على العقل قبل أن تكون متعةً للعين، من لبنان إلى مصر إلى المغرب، قدّم نموذجًا لعالمٍ عربيٍّ واحدٍ تتنوّع لهجاته لكنّ روحه واحدة. إنّه يدرك أن اللهجة ليست حاجزًا بل جسر، وأنّ تنوّع الوجوه ثراء لا تفرّق.
ورغم ذلك، لم يغفل الصبّاح التحدّيات التي تعصف بالصناعة. فهو من القلائل الذين تحدّثوا بصراحة عن أزمة تسويق الدراما خارج موسم رمضان، وعن صعوبة الموازنة بين ارتفاع التكاليف وغموض العوائد. غير أنّه يرى، بعين الخبير، أن الحلّ ليس في تقليص الإنتاج، بل في رفع الوعي بالمعنى. فحين تكون الفكرة قوية، يزول الخوف من السوق.
الدراما الواعية - كما يطرحها الصبّاح - ليست مجرد تصويرٍ لحياة الناس، بل إعادة ترتيبٍ لقيمهم ومعانيهم، ففي أعماله يتجاوز الاجتماعي والإنساني، وتطلّ الأسئلة الأخلاقية من خلف المشاهد، ماذا نفعل في هذا الزمن؟ وإلى أين تمضي أرواحنا؟
إنه لا يقدّم “أبطالًا خارقين” بقدر ما يعيد الإنسان إلى مركز الصورة، وهذا، في جوهره، ما تحتاجه الدراما العربية: أن تستعيد الإنسان، لا أن تستهلكه.
صادق الصبّاح: كيف تعيد الدراما العربية الإنسان إلى مركزه
ولعلّ أهم ما يميّز رؤية صادق الصبّاح هو وعيه بأنّ الدراما جزء من القوة الناعمة للأمة العربية، لذلك لم يقف إنتاجه عند الترفيه، بل تجاوزه إلى التعاون مع مؤسسات مجتمعية وأمنية وتربوية، ليصبح الفنّ وسيلة توعية لا وسيلة لهو، في هذا المعنى العميق، يقدّم الصبّاح نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الصناعة حين تتجاوز حدود الشاشة لتصل إلى وجدان المجتمع.
إن تجربة الصبّاح تؤكد أن الفنّ، حين يُدار بعقلٍ ناضج، يمكن أن يكون أداة بناءٍ ووعي. ومشروعاته في المغرب - على سبيل المثال - ليست مجرد استثمارات، بل مشروع ثقافي لتنمية السوق المحلي وصناعة النجوم العرب، لقد قال بوضوح إن “الدراما المغربية تفتقد صناعة النجوم”، ثم جعل من هذا الافتقاد دافعًا لبناء منظومةٍ جديدة، تُخرج الموهبة من الظلّ إلى النور، هكذا يتجلّى وعي المنتج الحقيقي: لا يكتفي بما هو قائم، بل يسعى لتطويره.
لكن الصبّاح، برؤيته المستقبلية، لا يغفل التحوّل الكبير الذي يعيشه العالم. فمع صعود المنصّات الرقمية، يدرك أن الدراما تدخل عصرًا جديدًا، وأنّ التلفزيون سيبقى، لكنه لن يظلّ وحده، في هذا المشهد، تصبح المسألة ليست في وسيلة العرض، بل في جودة المحتوى. فالمستقبل لمن يمتلك الفكر لا لمن يمتلك المنصّة فقط.
من هنا يمكن القول إن صادق الصبّاح، بوعيه الهادئ، قدّم درسًا للعاملين في الصناعة: أن الدراما ليست سباقًا رمضانيًا، ولا مجرّد مقاييس مشاهدة، بل رسالة أخلاقية وجمالية يجب أن تُحمل بضميرٍ يقظ. فالفن الذي يخلو من الضمير لا يبني وعيًا، بل يكرّس العدم.
والأخطر من ضعف الإنتاج هو ضعف الفكرة، حين يغيب الوعي ويحلّ التكرار، تفقد الدراما وظيفتها التنويرية. لهذا، يدعو الصبّاح دائمًا إلى نصٍّ عربيٍّ قويّ، يعيد للحوار مكانته، وللقيم وزنها، وللإنسان حقيقته. الدراما، في فلسفته، ليست تقليدًا للواقع بل بحثًا عن جوهره، ليست مرآةً فحسب، بل مصباحًا يهدي الطريق.
إنّ نموذج صادق الصبّاح لا يُقاس بما قدّمه من أعمال، بل بما أرساه من فكرةٍ واعيةٍ عن الفنّ بوصفه مشروعًا وطنيًا. فحين يصبح المنتج مثقفًا، والمخرج مفكّرًا، والممثل ضميرًا حيًّا، تستعيد الدراما العربية مكانتها كقوةٍ ناعمة تحفظ ذاكرة الأمة في وجه النسيان.
